الوحدة والكثرة في القصيدة
مفهوم الوحدة العضوية في القصيدة العربية:
يقصد النقاد بالوحدة العضوية أن تكون القصيدة مترابطة الأجزاء متماسكة الأعضاء، وأن تكون بنية واحدة تامة الخلق، وأن يكون كل بيت فيها كجزء خاضع ومكمل لجزء آخر. يقول عباس محمود العقاد:
"القصيدة ينبغي أن تكون عمال فنيا تاما يكمل فيها تصوير خاطر أو خواطر متجانسة، كما يكمل التمثال بأعضائه. والصورة بأجزائها واللحن الموسيقي بأنغامه، بحيث إذا اختلف الوضع أو تغيرت النسبة أخل ذلك
بوحدة الصنعة وأفسدها .
الوحدة العضوية في القصيدة العربية عند القدماء:
الوحدة العضوية بالمعنى السابق لم تعرفها القصيدة العربية القديمة بوجه عام، وبالثاني لم تكن هذه القضية بمفهومها من بين قضايا نقدنا العربي القديم، ومع ذلك لم يخل تراثنا النقدي من إشارات متناثرة إلى ضرورة وجود نوع من الترابط بين أجزاء القصيدة، لا يرقى إلى مستوى المطالبة بوجود وحدة عضوية للقصيدة ولكنه على أي حال ظن بعض نقادنا القدامى بأنها يمكن أن تكون من معايير جودة القصيدة وتفوقها
كان ابن قتيبة من بين نقادنا الذين أشاروا إلى قيمة ترابط أجزاء القصيدة التى تدل على وجود هذه القضية وملامحها عنده، وإن لم تكن واضحة ومحددة، فقد حاول فى كتابه(الشعر والشعراء) أن يلتمس نوعا من الوحدة النفسية التى ترابط بين أجزاء القصيدة على الرغم من تعدد أغراضها من الوقوف على الأطلال والغزل ووصف الرحلة، والمديح إذ جعل الترابط بين أبيات القصيدة أساسا من أسس المفاضلة بين الشعراء، يقول:"وتبين التكلف في الشعر بأن ترى البيت مقروناً بغير جاره، ومضموناً إلى غير لفقه.
أما ابن طباطبا فكان من أنضج نقادنا القدامى فيما يتصل فهو موضوع وحدة القصيدة وكان من أشد نقادنا القدامى اقتراباً من مفهوم وحدة القصيدة في النقد الحديث وتصوره للوحدة في القصيدة أشد وضوحاً وتبلوراً ودقة من تصور ابن قتيبة لهذه الوحدة، و قد ارتكزت الوحدة العضوية لديه على التركيز على تهذيب القصيدة واعتدال أجزائها وحسن تركيبها، وإيجاد الملائمة بين المعاني والألفاظ ،وأن تتم هذه الأمور بدقة وعناية وملاحظة متكررة ، فقد شبه الشاعر بالنساج و النقاش و الناظم، كما ركز على العناية التامة بمطلع القصيدة وافتتاحيتها بأن تكون أقرب إلى ذهن السامع
وعلى حسن التخلص و الانتقال من غرض إلى غرض بلباقة و حذق حتى لا تنقطع أجزاء القصيدة.
ومن هذه الأمور أيضا عدم إمكانية التقديم و التأخير في القصيدة وقدجعله ميزانا لجودة القصيدة وردائتها، فقال: "أحسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً ينسق به أوله مع آخره على ما ينسقه قائله فإن قدم بيت على بيت دخله الخلل"
ونستطيع أن نقول أن القضية كانت موجدة لديهم وإن لم تبلورت فى عصرهم من حيث التعريف والمفهوم كما تبلورت فى عصرنا. كذلك نستطيع القول بأن هذه الآراء جاءت غير شاملة وغير مضبوطة بحيث لا تخضع للقواعد والأصول الواضحة ولا تنبثق منها الفروع الأخرى.
الوحدة العضوية في القصيدة العربية عند المعاصرين:
الواقع أن وحدة القصيدة من المشاكل الأدبية التي تردد صداها مع مطلع القرن الماضي عند النقاد والشعراء، وأول من اهتم بها اهتماما بالغا وأوضح ملامحها وحدد مقوماتها، ثم قام بتطبيقها على قصائد شعراء هذا
القرن وسابقه، هم أصحاب مدرسة الديوان، فالمازني في تقريره لمبادئه النقدية يطالب الشاعر بأن "يلائم بين أطراف كلامه ويساوق بين أغراضه، ويبني بعضا منها على بعض ويجعل هذا بسبب من ذاك"،كما ويرى أن وحدة القصيدة تعني المشاعر التي تلائم بين عناصر القصيدة وأفكارها وتربط بينها في تسلسل يساوق بين هذه العناصر، ويربط بينها، وهي بذلك تعني وحدة الأفكار والمشاعر .أما العقاد فقد "كان أكثرهم حديثا عن هذه الوحدة في كتاباته، وقد جعلها المحور الذي دار عليها نقده لشوقي في كتابه الذي ألفه مع المازني باسم (الديوان) فالوحدة عنده تعني وحدة الغرض الذي يتطلب شيئين
الأول: ألا يكون البيت خارجا من الموضوع الذي تدور حوله القصيدة .
الثاني: أن تبتعد القصيدة عن الموضوعات المتعددة في داخلها وأن تدور كل أبياتها حول موضوع واحد.
أما وحدة القصیدة عند محمد غنیمي هلال فیحددها بأنها إدارك الموضوع بما یتضمنه من أفكار...ثم تنظیم المعاني بحیث تكون مرتبة منسقة لتتجلى وحدتها، ویتبدى مفهوم هذه الوحدة عنده بكل عناصره في قوله
"ونقصد بالوحدة العضویة في القصیدة وحدة الموضوع ووحدة المشاعر التي یثیرها الموضوع . وما یستلزم ذلك في ترتیب الصور والأفكار ترتیبا به تتقدم القصیدة شیئا فشیئا حتى تنتهي إلى خاتمة یستلزمها ترتیب الأفكار والصور،على أن تكون أجزاء القصیدة كالبنیة الحیة، لكل جزء وظیفته فیها، ویؤدي بعضه إلى بعض عن طریق التسلسل في التفكیر والمشاعر"
ومن الذین انتصروا لوحدة القصیدة القدیمة الباحث كمال أبو دیب، الذي
یعترف بأن التنوع في هذه القصیدة سمة جوهریة فیها، ولكن ذلك لا یعني بالضرورة انعدام الوحدة أو التفتت البنیوي، فقد تنطوي القصیدة على وحدة داخلیة قادرة على نقل رؤیا الشاعر.وحین ینبري الباحث لتحلیل معلقة لبید بن ربیعة، فإنه یلاحظ أنها إحدى أكثر القصائد العربیة القدیمة تشابكا وغنى وتعقیدا ، ویظهر هذا التشابك النسق الناشئ من المكوناتها.
إننا لا نعدم عناصر الوحدة في القصیدة العربیة القدیمة، خاصة تلك التي تنهج نهجا سردیا، كما أن استثمار المنجزات العلمیة المعاصرة ، مما له صلة بالعلوم التي تعالج النص في علاقاته الداخلیة التي تحقق له الانسجام والاتساق، كفیل بأن یضيء القصیدة العربیة إضاءة جدیدة تتیح لنا أن نرى ما تحت التفكك الظاهري من وحدة وانسجام تنطوي علیه هذه القصیدة
مقياس الكثرة وأثره في قضايا النقد الأدبي:
ويدخل مقياس الكثرة في عدد من قضايا النقد؛ حيث تقوم بعض القضايا النقدية على ملاحظة عنصر الكثرة ودلائله الموضوعية، ومن أبرز تلك القضايا:
- قضية الموازنة: يقرر القاضي الجرجاني أن العرب كانت "تفاضل بين الشعراء وتسلم السبق فيه، لِمَن كثرت سوائر أمثاله، وشوادر أبياته". وتبعًا لذلك فإننا نجد سبب تفضيل بعض الشعراء الجاهليين على بعض يرجع أحيانًا إلى الاعتداد بعنصر الكثرة، يقول ابن رشيق: "وأما النابغة، فقال مَن يحتجُّ له: كان أحسنهم ديباجة شعر وأكثرهم رونق كلام، وزعم أصحاب الأعشى أنه أذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة، ومدحًا، وهجاء، وفخرًا، وصفة"
وفي الموازنة بين أبي حية النميري والراعي كان أبو عمرو بن العلاء يقول: "أبو حية النميري أشعر في عظم شعره من الراعي، فأبو عمرو يلحظ عنصر الكثرة في تفضيله شعر أبي حية على شعر الراعي لكثرة الشعر الحسن لدى الأول، وقلته عند الآخر.
2- قضية معمار القصيدة:
بيَّن (ابن قتيبة) معمار القصيدة العربية المتضمِّن للمقدمة، ووصف الرحلة والنسيب ثم المديح، ثم عدَّ الشاعر المجوِّد مَن راعَى هذه الأقسام "فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يُطِل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد". ثم أعطى مثالاً واقعيًّا لعدم مراعاة تلك الأقسام، ومن هذا المثال الذي ضربه نجد أن مقياس الكثرة واضح التأثير في الحكم على معمار القصيدة بالنجاح أو الإخفاق، فقد أتى بعضُ الرجَّاز نصرَ بن سيار والي خراسان لبني أمية، فمدحه بقصيدة، تشبيبها مائة بيت، ومديحها عشرة أبيات، فقال نصر: والله ما بيت كلمة عذبة، ولا معنًى لطيفًا إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في النسيب".فكثرة النسيب على حساب المدح جعلت الممدوح ينتقد ذلك الشعر وينكر على صاحبه.
ويدخل مقياس الكثرة في إيجاد الحكم النقدي في جوانب متعددة يمكن عرضها على النحو التالي:
- تقديم الشاعر لكثرة أغراضه وأفانينه
- كثرة الانتصار على الخصوم فتبدو قيمة الشاعر في انتصاره على أكبر عدد من الخصوم، وبخاصة إذا كان الواحد منهم له خطره وشأنه في الشعر، فهناك مَن يُعلِي من شأن أبي تمام والبحتري "لأنهما أخملاَ في زمانهما مائة شاعر كلهم شاعر مُجِيد